مرآة التاريخ رؤية ورسالة
هوامش ولمسات حول ظاهرة العنف بالجامعات.
د. عثمان السيد محجوب
"إن مشاكل الشباب ماهي إلا إنعكاس لمشاكل المجتمع... لكن بشكل حاد"
I. ماهية العنف:
العنف في الأصل موقف عدائي من الآخر يترتب عليه إلحاق أذي جسدي أو نفسي به. ولقد كان فم الإنسان أول أداة استخدمها العدوان حتى وهو لا يزال في نعومة أظفاره.. فهو يستخدمه للعض أو البصق ثم السب والشتم والهمز واللمز. وكذلك العين واليد واللسان.. فتصف اللغة بعض النظرات بأنها مميتة.. كما تصف بعض الألفاظ بأنها جارحة. ولخطورة هذه الظاهرة لم يكن صدفة أن يعرف الدين الحنيف المسلم بأنه: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".
والشاهد أن العنف قديم.. وإنما الجديد طرقه وأساليبه التي تطورت وتعددت بشكل مذهل مستفيدة في ذلك من منجزات العلم علي مر العصور. وأول ما وقع منه علي المستوي الفردي – فيما نعلم – ما حدث بين أبني آدم.. قابيل وهابيل.. حيث أقدم الأول علي قتل الثاني.. وكانت المرأة وراء ذلك.. كما كانت من قبل وراء طرد أبيهما من الجنة. وعلي المستوي الجماعي فان من أقدم الظواهر هولاً ووحشية في التأريخ الإنساني.. ظاهرتي الرق والحرب. ومما يجدر ذكره أن ثمة علاقة جدلية بينهما وآية ذلك أن فكرة الرق مستمدة أصلاً من القوي يستعبد الضعيف.. فبعد كل حرب يكون هناك اسري.. والمنتصر يعتبرهم ملكية خاصة به. وهكذا ساعدت الحرب علي اتساع نطاق الرق عبر التأريخ.
ولنا أن نتساءل.. هل العنف سلوك فطري أم مكتسب؟ والشاهد أن السيطرة والعدوان وحب التملك كان يدرجهما العلماء إلي عهد قريب في قائمة.. الغرائز (Instincts).. أي الدوافع الفطرية المشتركة بين جميع الناس. بل ذهب فرويد (Freud) "1856 – 1939"مؤسس مدرسة التحليل النفسي إلي أن العدوان استعداد غريزي قائم بذاته لدي الإنسان.. أي أنه مغروز في فطره أبن آدم حتى وأن لم يعتد عليه أحد. وقديماً قال أبو الطيب المتنبي:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
وقال آخر فرقاً من الآخر وظلمه:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدن أطير
وموجز القول أن العدوان فيما يراه فرويد ليس مجرد وسيلة إلي غاية.. بل غاية في ذاته تثيره حالة من الاهتياج والتوتر الجسمي.. وهو المسئول عن اشتعال الحروب وعن صراع الموصول بين الناس وبين الشعوب بعضها البعض. غير أن الدراسات الانثربولجية أثبت أن هذه الظاهرة لا وجود لها لدي كثير من الشعوب البدائية.. أي أنها لست عامة شاملة.. فهي دوافع حضارية مكتسبة يرجع ظهورها. إلي الظروف الخاصة تنشئة الأطفال في المجتمعات المختلفة بما تتطلبه ظروف كل مجتمع..
والشاهد أن في فطرة الإنسان ما يزكي وجود دوافع المقاتلة خاصة وأنه مرتبط بغريزة حب البقاء والدفاع عن النفس. ولذا صنفه بعض العلماء ضمن قائمة دوافع الطوارئ.. وهي دوافع فطرية وثيقة الصلة بالمحافظة علي بقاء الفرد وبقاء النوع. ومما يجدر ذكره أن الإنسان لا يرث ميلاً إلي المقاتلة والعدوان حباًً في العدوان.. بل حين يعاق سلوكه وتحبط دوافعه وتقيد حريته. فالشاهد أن المنبهات الخارجية وحدها لا تستطيع أن تثير سلوك الفرد ما لم تتجاوب مع عوامل داخلية.. فرؤية الطعام مثلاً لا تثير الشهية في الشبعان.. بل قد تثير النفور. والمطرب الواحد قد يشجي بعض السامعين ويزعج البعض الآخر.. وكما يقال عادة: "يمكنك أن تقود حصاناً إلي مورد الماء.. لكن لا يمكنك حملة علي الشرب".
وكيفما كان الأمر.. فالشاهد أن التأزم النفسي يعد من أقوي الدوافع وأشدها لدي الإنسان.. وإن العدوان يكون في العادة نتيجة إحباط سابق أو توقع لهذا الإحباط. والإحباط يؤدي في كثير من الأحيان إلي العدوان.
II. دوافع العنف لدي الشباب:
لأسلوك بلا دافع.. والدافع هو استعداد فطري مركب من عدة عناصر: 1. مثير ينشطه 2. سلوك يصدر عنه 3. هدف يرمي إليه. والدوافع تعرف عموماً بأنها حالات فسجولوجية وسايكلوجية تجعل الفرد ينزع للعمل في اتجاه معين. وعلي هدي ذلك نمضي متسائلين عن دوافع العنف لدي الشباب واضعين في الاعتبار أنهم أهم شرائح المجتمع علي الإطلاق وذلك للآتي:
1. الشباب يمثل عادة إرادة التغيير في مقابل إرادة الثبات لدي القطاعات الاجتماعية الأخرى (الكهول – الشيوخ – النساء – الأطفال). ومن هنا تنشأ ظاهرة صراع الأجيال.. وأية ذلك أن الصراع.. والذي هو قانون من قوانين الحياة الأساسية.. يكون نتيجة لتعارض قوانين إحداهما دافعة والأخرى مانعة.. فالجديد في صراع مع القديم.. والحاضر في صراع مع الماضي..الخ.
2. كثرة المشاكل المختلفة التي تصاحب هذه المرحلة من العمر (12 إلي 18) عاماً تزيد أو تنقص لمدة عامين من حالة إلي أخرى. وتتميز عموماً بما يعرف "بفوران المراهقة" (Adolescence Turmoil) وتداعياته المختلفة.
3. ما يتمتع به الشباب من طاقة جبارة قياساً بقطاعات المجتمع الأخرى.
وعلي ضوء ذلك يمكن القول إن مشاكل الشباب نرند إلي عاملين:
1. خصائص مرحلة الشباب.
2. خصائص المجتمع الذي ينتمون إليه ودراسته مثل شكل العائلة وقوانين وقيم المجتمع.. الصراعات الدائرة فيه – مستوي تطوره، هل هو رعوي أم صناعي.. هل هو ريفي أم حضري..الخ.
أولاً: خصائص مرحلة الشباب:
1. التحدي وأحياناً احتقار القيم الاجتماعية والفردية والتي يخضعها الشاب إلي فحص دقيق واختبار متواصل قبل الوصول إلي قناعات نهائية بشأنها.
2. ما يحمله هذا التحدي من "ميكانزمات دفاعية" لدي الشباب.. الأمر الذي يؤدي إلي سهولة الاصطدام.
3. التناقض بين الرغبة في الاستقلال بالرأي والشخصية مع الحاجة للارتباط بالأسرة مادياً واجتماعياً.
4. التناقض بين المظهر الدال علي النضج والجوهر الغير ناضج أحياناً.
5. عدم القدرة علي التفكير المجرد.. فكلمات مثل المسئولية.. الإنسانية الوطنية.. لا تحدث نفس الأثر وليس لها نفس الفهم بين الشباب والكبار.
6. محاولة البحث عن الذات.. وتتميز بتقلب الأمزجة وتقمص الأدوار المختلفة مع سرعة التغيير.. الأمر الذي يخلق أزمة للشباب ومن حوله.
7. الانتماء إلي مجموعة شبابية تساعد الشاب في الاستقلال من الأسرة والولاء لهذه المجموعة سواء أكانت سوية أو منحرفة.
8. الصراع النفسي المتولد عن تأثير الغرائز وعدم النمو الكامل "للأنا العليا" "الضمير" والتي تمثل الكوابح في مقابل "الأنا السفلي" التي تمثل الغرائز وبداية ظهور علاقات شاذة مؤقتة أو علاقات مع الجنس الآخر تتميز بالعاطفة المتأججة وعدم العقلانية أو ممارسة العادة السرية وما يتبعها من شعور بالذنب.
9. الخيال المتأجج وإن كان الشاب لا يرضي بعرضه علي الآخرين.. وهذه من بقايا مرحلة الطفولة مع تأثير النضج علي حدة مستوي وأفق أحلام اليقظة.
10. النرجسية ونزعة التمركز حول الذات التي تحول دون رؤية الآخرين مع إعتقاد المرء بأنه محور الكون ومبعوث العناية إلا لاهية وأنه دائماً علي حق وسواه علي باطل.. في حين أن الموضوعية تفترض إن رأى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب.
11. سرعة الانفعال للأسباب سالفة الذكر.
ثانياً: خصائص المجتمع السوداني:
إن مشاكل الشباب ما هي إلا انعكاس لمشاكل المجتمع لكن بشكل حاد.. فبقدر ما في المجتمع من تناقضات تكون أزمة الشباب أكثر حدة. وإن من أهم خصائص المجتمع السوداني بعد الاستقلال حتى اليوم هو عدم الاستقرار وتفكك الأبنية الاجتماعية التقليدية في الريف دون إيجاد البديل.. والهجرة من لريف إلي المدنية وما تسببه للشباب النازح من مشاكل عديدة في ظل الضغوط الرهيبة في المدنية.. من مشاكل السكن العشوائي والغير صحي والغير موجود أحياناً وفي غياب الأسرة الممتدة إلي مشاكل العمل والموصلات وعدم التمكن من الهجرة إلي الخارج.. ولا يبقي أمام الشباب إلا الهروب إلي الداخل والانكفاء علي الذات. هذه بجانب تفكك القيم الاجتماعية وسيادة قيم الانتهازية والتسلق والحلول السريعة المؤقتة والرغبة في جمع المال بأي وسيلة والهجرة إلي خارج البلاد وما تخلقه من مشاكل في الآسرة.
وما زاد الأمر ضغثاً علي أبالة انحدار وضع المعلم المادي والاجتماعي وما يترتب عليه من فقدان الرغبة والحماس في المجتمع الأمر الذي دفع شاعرنا محمد محمد علي للدعاء والتماس الخلاص:
يارب أنقذنا من التدريس
ورزقه المصرد الخسيس
من الخميس إلي الخميس
تأكلنا الأعباء أكل السوس
وهذا آخر يجد السلوى في الإيمان:
يجوبون البلاد بكل واد
ويغشون الحواضر والبوادي
ولولا أن إيماناً هداهم
إلي شرف الرسالة والجهاد
لما سلكوا طريق الشوك عمداً
|